فصل: 4- المحكم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: علم أصول الفقه



.3- المفسر في اصطلاح الأصوليين:

هو ما دل بنفسه على معناه المفصل تفصيلاً لا يبقى معه احتمال للتأويل. فمن ذلك، أن تكون الصيغة دالة بنفسها دلالة واضحة على معنى مفصل، وفيها ما ينفي احتمال إرادة غير معناها، كقوله تعالى في قاذفي المحصنات: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، فإن العدد المعين لا يحتمل زيادة ولا نقصاً، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} [التوبة: 36]، فإن كلمة كافة تنفي احتمال التخصيص، وكثير من مواد العقوبات التي حددت العقوبات على جرائم معينة، ومواد القانون المدني التي حصرت أنواعاً من الديون أو الحقوق أو فصلت أحكاماً تفصيلاً لا احتمال معه للتأويل.
ومن ذلك أن تكون الصيغة قد وردت مجملة، وألحقت من الشارع بيان تفسيري قطعي أزال إجمالها، وفصلها حيى صارت مفسرة لا تحتمل التأويل، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وكقوله{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وكقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فالصلاة والزكاة والحج والربا، كل هذه ألفاظ مجملة لها معان شرعية لم تفصل بنفس صيغة الآية. وقد فصل الرسول صلى الله عليه وسلم معانيها بأفعاله وأقواله، فصلى وقال: «صلي كما رأيتموني أصلي»، وحج وقال: «خذوا عني مناسككم»، وحصل الزكاة وفصل الربا المحرم. وهكذا كل مجمل في القرآن، مكملً له مادام قطعياً، وهذا ما يسمى في الاصطلاح الحديث: التفسير التشريعي، أي الذي مصدره الشارع نفسه، فإن الرسول أعطاه الله سلطة التفسير والتفصيل بقوله سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]
وحكم المفسر: أنه يجب العمل به كما فصل، ولا يحتمل أن يصرف عن ظاهره، ويقبل حكمه النسخ إذا كان مما بيناه في الظاهر، أي حكماً فرعياً يقبل التبديل.
فالتفسير الذي ينفي احتمال التأويل هو التفسير المستفاد من نفس الصيغة، أو المستفاد من بيان تفسيري قطعي ملحق بالصيغة صادر من المشرع نفسه، لأن هذا البيان من القانون. وأما تفسير الشراح والمجتهدين، فلا يعتبر جزءاً مكملاً للقانون ولا ينفي احتمال التأويل، وليس لأحد غير الشارع نفسه أن يقول فيما يحتمل التأويل المراد منه هو كذا لا غير.
ويظهر من مقارنة التفسير بالتأويل، أن كلاً منهما تبيين للمراد من النص، ولكن التفسير تبيين للمراد بدليل قطعي من الشارع نفسه، ولهذا ليحتمل أن يراد غيره.

.4- المحكم:

المحكم في إصلاح الأصوليين: هو ما دل على معناه الذي لا يقبل إبطالاً ولا تبديلاً بنفسه دلاله واضحة لا يبقى معها احتمال للتأويل، فهو لا يحتمل التأويل أو إرادة معنى آخر غير ما ظهر منه، لأنه مفصل ومفسر تفسيراً لا مجال معه للتأويل، ولا يقبل النسخ في عهد الرسالة وفترة التنزيل ولا بعدها، لأن الحكم المستفاد منه، إما حكم أساسي من قواعد الدين لا يقبل التبديل: كعبادة الله وحده، والإيمان برسله وكتبه، أو من أمهات الفضائل التي لا تختلف باختلاف الأحوال: كبر الوالدين، والعدل، أو حكم فرعي جزئي، ولكن دل الشارع على تأييد تشريعه كقوله تعالى في قاذفي المحصنات: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور: 4]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة».
وحكمه أنه يجب قطعاً العمل به، ولا يحتمل صرفه عن ظاهره ولا نسخه، وإنما قلنا لا يقبل النسخ، لأنه بعد عهد الرسول وانقطاع الوحي والتنزيل، صارت الأحكام الشرعية التي جاءت في القرآن والسنة كلها محكمة لا تقبل نسخاً، ولا إبطالاً، إذ لا توجد بعد الرسول سلطة تشريعية، تملك إبطال ما جاء به أو تبديله، وسيأتي توضيح هذا في مبحث النسخ.
وهذه الأنواع الأربعة للواضح الدلالة، متفاوتة في وضوح دلالتها على المراد منها كما قلنا، ويظهر اثر هذا التفاوت عند التعارض.
فإذا تعارض ظاهر ونص يرجح النص، لأنه أوضح دلالة من الظاهر من جهة أن معنى النص مقصود أصالة من السياق، ومعنى الظاهر غير مقصود أصالة من السياق، ولاشك في أن المقصود أصالة يتبادر إلى الفهم قبل غيره.
فلهذا كانت دلالة النص أوضح من دلالة الظاهر، ولهذا يرجح الخاص على العام عند التعارض، لأن الخاص مقصود أصالة بالحكم، فاللفظ نص فيه، وهو في العام غير مقصود أصالة بل في ضمن أفراد.
ومثال هذا قوله تعالى بعد عد المحرمات من النساء: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، مع قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. فالآية الأولى ظاهرة في إحلال زواج خامسة لأنها مما وراء ذلكم، والآية الثانية نص في قصر إباحة الزواج على أربع، فلما تعارضا رجح النص لقوته في وضوح دلالته، وحرم زواج ما زاد على أربع.
وإذا تعارض نص ومفسر يرجح المفسر، لأنه أوضح دلالة من النص من جهة أن تفسيره جعله غير محتمل للتأويل وجعل المراد منه متعيناً.
ومثال هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «المستحاضة تتوضأ لكل صلاة»، مع قوله: «المستحاضة تتوضأ وقت كل صلاة»، فالأول: نص في إيجاب الوضوء لكل صلاة، لأنه يفهم من لفظه ومقصود من سياقه، والثاني مفسر لا يحتمل تأويلاً، لأن الأول يحتمل إيجاب الوضوء لكل صلاة ولو في وقت واحد، أو لوقت كل صلاة، ولو أدى في الوقت عدة صلوات، ولكن الثاني قطع هذا الاحتمال، فيرجح، وصار الحكم الشرعي هو إيجاب الوضوء للوقت وتصلي فيه ما شاءت من الفرائض والنوافل.

.القاعدة الرابعة: في غير الواضح الدلالة ومراتبه:

غير الواضح الدلالة من النصوص وهو ما يدل على المراد منه بنفس صيغته، بل يتوقف فهم المراد منه على أمر خارجي، إن كان يزال خفاؤه بالبحث والاجتهاد فهو الخفي أو المشكل، وإن كان لا يزال خفاؤه إلا بالاستفسار من الشارع نفسه فهو المجمل، وإن كان لا سبيل إلى إزالة خفائه أصلاً فهو المتشابه.
قدمنا في القاعدة الثالثة أن مراتب الواضح الدلالة تتفاوت في وضوحها، وبينا في تلك القاعدة أقسام الواضح الدلالة، ونبين في هذه القاعدة أقسام الواضح الدلالة ومراتب خفائه وما يزال به الخفاء.

.أقسام غير الواضح الدلالة:

وقد قسم الأصوليون غير الواضح الدلالة إلى أربعة أقسام أيضا: الخفي والمشكل، والمجمل، والمتشابه.

.1- الخفي:

المراد بالخفي في اصطلاح الأصوليين: اللفظ الذي يدل معناه دلالة ظاهرة، ولكن في انطباق معناه على بعض الأفراد نوع غموض وخفاء تحتاج إزالته إلى نظر وتأمل، فيعتبر اللفظ خفياً بالنسبة إلى البعض من الأفراد. ومنشأ هذا الغموض أن الفرد فيه صفة زائدة على سائر الأفراد أو ينقص عنها صفة، أو يكون له اسم خاص، فهذه الزيادة أو النقص أو التسمية الخاصة تجعله موضع اشتباه، فيكون اللفظ خفياً بالنسبة إلى الفرد، لأن تناوله له يفهم من نفس اللفظ، بل لابد له من أمر خارجي.
مثال ذلك: لفظ السارق معناه ظاهر، وهو آخذ المال المتقوم المملوك للغير خفية من حرز مثله. ولكن في انطباق هذا المعنى على بعض الأفراد نوع غموض، كالنشال (الطرّار) فإنه آخذ المال في حاضر يقظان بنوع من المهارة وخفة اليد ومسارق الأعين، فهو يغاير السارق بوصف زائد فيه جرأة المسارقة، ولذا سمي باسم خاص. فهل يصدق عليه لفظ السارق فتقطع يده، أولا يصدق عليه فيعاقب تعزيزاً؟ وقد ثبت بالاجتهاد اتفاقاً وجوب قطع يده من طريق دلالة النص، لأنه أولى بالحكم من جهة أن علة القطع أكثر توافراً فيه.
وكالنباش، فإنه أخذ مال غير مرغوب فيه عادة من قبور الموتى، كأكفانهم وثيابهم، فهو يغاير السارق من جهة أنه لا يأخذ مملوكاً من حرز، ولذا سمي باسم خاص به، فهل يصدق عليه لفظ السارق فتقطع يده، أو لا يصدق فيعاقب تعزيزاً؟!
وقد ثبت للشافعي وأبي يوسف أنه سارق فتقطع يده، وثبت لسائر أئمة الحنفية أنه غير سارق فيعاقب تعزيزاً بما يردعه ولا تقطع يده، لأن أخذه مالاً غير مرغوب فيه ولا مملوك لأحد، ومن غير حرز، شبهة يسقط الحد.
وكذا لفظ القاتل في حديث: «لا يرث القاتل»، هل يتناول القاتل خطأ أو بالتسبب أو لا يتناوله؟ والبائع إذا أخذ من المشتري نقوداً على أن يأخذ منها ثمن البيع ويرد الباقي فاختفى، هل يصدق عليه أنه سارق أو خائن الأمانة؟ وكذا كل لفظ دل دلالة ظاهرة على معناه ولكن وجد خفاء واشتباه في انطباق معناه على بعض الأفراد يعتبر اللفظ خفياً بالنسبة إلى الأفراد.
وأمثلة هذا في القوانين الشرعية والوضعية كثيرة، ومن أظهرها بعض الجرائم التي يشتبه في أنها جناية أو جنحة، أي في انطباق أحد اللفظين عليها.
والطريق لإزالة هذا الخفاء هو بحث المجتهد وتأمله. فإن رأى اللفظ يتناول هذا الفرد ولو بطريق الدلالة جعله من مدلولاته فأخذ حكمه، وإن رأى اللفظ لا يتناوله بأي طريق من طرق الدلالة لم يجعله من مدلولاته فلا يأخذ حكمه، وهذا مما تختلف فيه أنظار المجتهدين. ولذلك جعل بعضهم النباش سارقاً ولم يجعله آخرون، ومرجعهم في اجتهادهم لإزالة هذا الخفاء هو علة الحكم، وحكمته، وما ورد في هذا الشأن من النصوص، فقد تكون العلة أكثر توافراً في هذا الفرد، وربما لا تكون متحققة فيه، وقد يدل على حكمه نص آخر يتناوله بوضوح.

.2- المشكل:

المراد بالمشكل في اصطلاح الأصوليين: اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، بل لابد من قرينة خارجية تبين ما يراد منه، وهذه القرينة في متناول البحث.
فسبب الخفاء في الخفي ليس من نفس اللفظ، ولكن من اشتباه في انطباق معناه على بعض الأفراد لعوامل خارجية، وأما سبب الخفاء في المشكل فمن نفس اللفظ لكونه موضوعاً لغة لأكثر من معنى، ولا يفهم المعنى المراد منه بنفسه أو لتعارض ما يفهم من نص مع ما يفهم من نص آخر.
وقد ينشأ الإشكال في النص من لفظ مشترك فيه، فإن اللفظ المشترك موضوع لغة لأكثر من معنى واحد، ليس في صيغته دلالة على معنى معين مما وضع له، فلابد من قرينة خارجية تعينه، كلفظ القرء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228]، فإنه موضوع في اللغة للطهر وللحيض، فأي المعينين هو المراد في الآية؟ وهل تنقضي عدة المطلقة بثلاث حيضات أو بثلاث أطهار؟
ذهب الشافعي وبعض المجتهدين إلى أن القرء في الآية المراد منه الطهر، والقرينة هي تأنيث اسم العدد لأنه يدل لغة على أن المعدود مذكر وهو الأطهار ولا الحيضات.
وذهبت الحنفية وفريق آخر من المجتهدين لإلى أن القرء في الآية هو الحيض والقرينة:
أولاً: حكمة تشريع العدة، فإن الحكمة في إيجاب العدة على المطلقة يعرف براءة رحمها من الحمل، والذي يعرف هذا هو الحيض لا الطهر.
وثانياً: قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، فإنه جعل مناط الاعتداد بالأشهر عدم الحيض، فدل على أن الأصل هو الاعتداد بالحيض.
وثالثاً: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان»، فالتصريح بأن عدة الأمة بالحيض بيان للمراد بالقرء في اعتداد الحرة، أما تأنيث اسم العدد فلمراعاة تذكير لفظ المعدود وهو القرء.
وقد ينسأ الإشكال في النصوص بعضها ببعض، أي يكون كل نص حدته ظاهر الدلالة على معناه ولا إشكال في دلالته، ولكن الإشكال في التوفيق والجمع بين هذه النصوص. ومثال قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النشاء: 79]، مع قوله سبحانه: {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ} [النساء: 78]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} [الأعراف: 28]، مع قوله سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16]، وسائر النصوص ظاهرها التعارض.
والطريق لإزالة إشكال المشكل هو الاجتهاد. فعلى المجتهد، إذا ورد في النص لفظ مشترك أن يتواصل بالقرائن والأدلة التي نصبها الشارع إلى إزالة إشكاله وتعيين المراد منه، كما تبين من اجتهاد المجتهدين تعيين المراد بلفظ القرء في للآية واختلاف وجهة نظرهم في هذا التعيين. وإذا وردت نصوص ظاهرها التخالف والتعارض، فعلى المجتهد أن يؤولها تأويلاً صحيحاً يوفق بينها، ويزيل ما في ظاهرها من اختلاف، وهاديه في هذا الدليل: إما نصوص أخرى، أو قواعد الشرع أو حكمة التشريع.